“أنا وزياد و حاجز الخوف”

“أنا وزياد و حاجز الخوف”

بقلم طارق غريب

كان المساء ساكنًا ، إلا من همس الريح وهي تمرّ على وجه النهر ، كأنها أصابع خجلى تلمس صفحة الماء لتوقظه.

كنت أنا وزياد نسير على الطريق الترابي الممتد بين الحقول ، الطريق ذاته الذي كنا نلعب فيه صغارًا ونخاف من ظلاله ليلًا.

قال زياد بصوت خافت :

 أتذكر يا طارق حين كنّا نركض من هذا المنحدر ، 

لأننا كنا نظن أن وراءه وحشًا؟

قلت مبتسمًا : نعم ، كنا نظن أن الظلال تتكاثر بالليل ، 

 لتأكل قلوب الصغار.

توقف زياد فجأة ، نظر إلى البعيد وقال : أتعرف؟

 الخوف لم يكن في الظلال ، بل فينا. 

نحن من ربّيناه حتى صار له صوت ورائحة.

قلت : وربما صار له اسم أيضًا ، اسمه العادة.

نظر إليّ بدهشة ، فتابعت : الخوف لا يعيش إلا في أرضٍ اعتادت الصمت ، ونحن سكتنا كثيرًا.

جلسنا على صخرةٍ صغيرة ، أمامنا السكون وخلفنا العمر.

قال زياد : ما حاجز الخوف يا طارق؟ 

أهو جدار من الوهم أم من التجارب؟

قلت وأنا أحدّق في الأفق : هو جدار من الأسئلة يا صديقي ، كل سؤال فيه طوبة ، 

وكل إجابة خاطئة تزيده سُمكًا.

ضحك زياد : إذًا كيف نهدمه؟

قلت : بأن نسأل من جديد ، لا لنُطمئن أنفسنا ،

 بل لنجرّحها بالصدق.

سكت قليلًا ، ثم نهض وقال : أريد أن أراه.

قلت : من؟

قال : حاجز الخوف. أريد أن أراه بعيني.

أمسكت بيده وسرنا نحو الظلام الذي كنا نخشاه قديمًا.

كل خطوة كانت كأنها درس في الفلسفة ،

 وكل ظلٍّ يتحول إلى مرآةٍ تعكس شيئًا من وجوهنا.

وحين وصلنا إلى نهاية الطريق ،

 كان هناك شيء يشبه الضباب ، كثيفًا وغريبًا.

قال زياد : أهو هو؟

قلت : لا أعرف ، لكن اقترب.

اقترب زياد ، مدّ يده في الضباب ، ثم عبره.

نظرت إليه من الجهة الأخرى ، كان يبتسم ،

 وجهه مضيء كأنّه تحرّر من زمنٍ طويل.

قال : إنه لا شيء يا طارق ، لا شيء!

ابتسمتُ وقلت : بل هو كل شيء ، لأنه كان فينا ، لا أمامنا.

ثم عبرت أنا أيضًا ، وشعرت كأنني ولدت من جديد.

خلفنا ظلٌّ انكسر ، وأمامنا ضوءٌ لم نره من قبل.

قال زياد : الآن فقط فهمت

قلت : ماذا؟

قال: أن الخوف لا يُهزم بالشجاعة ، بل بالصدق مع النفس.

ومضينا في الصمت ، كأننا نترك وراءنا قرونًا من الوهم ، ونمضي إلى حياةٍ تبدأ من قلب الحقيقة.

وبينما كنا نسير في الضوء الجديد ، 

سأل زياد بصوتٍ متهدّج : هل ينتهي الخوف تمامًا يا طارق؟

أجبته : لا ، لكنه يتبدّل شكلاً .

 يصبح حكمةً تحرس القلب بدل أن تقيده.

تأمل السماء طويلًا وقال : كنت أظنه عدوًا ، فإذا به معلّم.

قلت : المعلم القاسي هو الذي لا يرحل حتى تفهم درسه.

جلسنا على حافة الضوء ، لا ظلّ لنا هذه المرة.

كنت أراه يبتسم لنورٍ لم يره أحد من قبل.

قال زياد: كلنا نحمل حواجزنا ، بعضها من خوف ،

 وبعضها من حبٍّ لم نكتمل فيه.

قلت : وربما الخوف هو ظلّ الحبّ حين يضعف.

أطرق رأسه وقال :

إذن علينا أن نحب أكثر ، لا أن نتشجع أكثر.

قلت : بالضبط يا صديقي ، 

فالشجاعة ليست ضدّ الخوف ، بل ضده الجمود.

ثم سكتنا.

كان الليل قد بدأ يبتسم لنا من بعيد ، 

كأنه يعترف بهزيمته أمامنا.

ولأول مرة ، شعرت أن العتمة يمكن أن تكون رفيقًا لا خصمًا.

قال زياد وهو يمدّ يده إلى الظلام من جديد :

لم أعد أريد أن أراه كعدوّ ، بل كسترٍ مؤقت قبل الفجر.

ابتسمت : هذا هو الدرس الأخير يا زياد ، 

أن من يواجه الخوف لا يبحث عن الضوء ، بل يصنعه.

 

“أنا وزياد وما بعد الحاجز”

بعد أن عبرنا الضباب ، لم نجد أرضًا جديدة كما تخيلنا ، بل وجدنا أنفسنا في الداخل.

كأن الحاجز لم يكن يفصل بيننا وبين العالم ، 

بل بيننا وبين ذواتنا.

كانت الأرض هادئة ، لا زمان فيها ولا اتجاه ، 

فقط صمت نقيّ كأنه مادة الوجود الأولى.

قال زياد بصوت مدهوش :

 أهذا ما بعد الخوف؟

قلت : ربما ، أو لعله ما قبل الخوف. 

كأننا عدنا إلى أصلنا الأول قبل أن نتعلم الارتجاف.

تقدّم بضع خطوات وقال :

 أشعر بخفة غريبة ، كأن شيئًا في صدري أُزيل.

قلت مبتسمًا :

تلك هي القيود التي كنا نحملها ونظنها أجنحة.

جلس زياد على حجر صغير يشبه مرآةً صخرية ، 

نظر في انعكاسه وقال :

أترى؟ لم أعد أرى وجهي كما كان. كأنني شخص آخر.

قلت : لأنك رأيت نفسك دون خوف ،

 والمرآة لا تكذب إلا حين نكذب نحن.

سكت لحظة ، ثم قال : كنت أظن أننا سنصل إلى نورٍ يغمرنا ، إلى فجرٍ مهيب ، لكن كل ما هنا بسيط ، ساكن ، بلا صخب.

قلت : النور الحقيقي لا يأتي ضجيجًا يا زياد ،

 بل يأتي هدوءًا يُصلح الداخل.

 إذن ، هل انتهى الطريق؟

 لا ، بل بدأ. فالعبور لم يكن نهاية ،

 بل ولادة تغيّر المشهد من حولنا.

الضباب تحوّل إلى صورٍ من حياتنا القديمة :

” طفل يبكي ، أمّ تصلي ، رجل يهرب من ظله ،

 وعاشق يمدّ يده نحو من لا يراه.”

قال زياد وهو يشير إلى الصور : هذه حيواتنا!

قلت : لا ، هذه وجوه الخوف فينا، 

 كل واحدٍ منها صورة ناقصة منّا.

اقترب من صورة الطفل ، نظر إليها طويلًا وقال :

 كم بكينا ونحن لا ندري لماذا.

قلت : لأننا وُلدنا بقلوبٍ مفتوحة ، 

ولم نجد من يحتضنها بالطمأنينة ،

 فتعلمنا الخوف بدل الحنان.

ثم أشار إلى صورة الرجل الهارب وقال : وهذا؟

قلت : هذا نحن حين صدقنا أن الخلاص في الهرب.

ابتسم زياد بأسى ، ثم قال :

 يبدو أن كل جدار في حياتنا ، بنيناه بأيدينا.

قلت : نعم ، ونحن من يجب أن نهدمه بالحقيقة ، لا بالحجارة.

وبينما كنا نتحدث ، بدأ النور يتغيّر لونه شيئًا فشيئًا ،

 صار ذهبيًا دافئًا ، كأنه يتنفس معنا.

قال زياد : أشعر أني أستطيع أن أرى الماضي دون ألم.

قلت : هذا هو التحرر ، أن ترى دون أن ترتجف ، 

وأن تتذكر دون أن تُعاقب نفسك.

اقترب مني ووضع يده على كتفي وقال :

 طارق ، حين نعود ، هل سيتغير العالم؟

قلت : لا ، لكنه سيبدو مختلفًا لأننا تغيّرنا.

العالم لا يتبدل ، الذي يتبدل هو العين التي تراه.

ضحك زياد وقال : إذًا الحاجز لم يكن في العالم ، 

بل في نظرتنا إليه.

قلت : تمامًا ، الخوف لم يكن عدواً ، بل باباً إلى الفهم.

في تلك اللحظة سمعنا صوتًا يشبه نداء بعيد ،

 كأنه يأتي من أعماقنا :

“ارجعا ، فالضوء الذي وجدتماه يجب أن يُشعل في الآخرين.”

نظرنا إلى بعضنا ، ثم إلى الطريق الذي عدنا منه ،

 لم يعد هناك ضباب ، فقط سماء منفتحة كأنها وعد.

قال زياد : هل نعود؟

قلت : نعم ، لنعلّم من بقوا خلف الحاجز ،

 أن الضوء لم يكن يومًا في الخارج.

أمسك بيدي كما فعل أول مرة ، وعدنا نسير ،

لكن هذه المرة ، لم يكن فينا خوف ولا ظلّ ،

كنا نضحك ، والريح من حولنا تهمس كأنها تصفق لنا.

وهكذا انتهى الحاجز ، لم يسقط بصوت ،

بل تلاشى في قلوبٍ عرفت أن الشجاعة لا تُكتسب ،

 بل تُستعاد.

 

“أنا وزياد والذين بقوا خلف الحاجز”

عدنا.

كانت الطريق ذاتها، لكن لم تعد كما كانت.

الأشجار نفسها ، إلا أنها بدت أكثر صمتًا ، 

كأنها تعرف أننا عبرنا شيئًا لا يُرى.

الهواء كان مختلفًا ،

 يحمل في داخله رائحة أسئلة لم تُطرح بعد.

قال زياد وهو يحدق في البعيد :

 هل تظن أنهم ما زالوا هناك؟

قلت :

الخوف لا يرحل عن الناس ، بل يغيّر ملامحه ،

 يلبس وجوههم ويجلس بينهم.

سِرنا بخطواتٍ هادئة نحو القرية.

كانت الأنوار خافتة ، والبيوت مغلقة الأبواب ،

 كأن الليل فيها قانون.

وعندما لمحونا ، لم يصدق أحد أننا عدنا.

اقترب شيخٌ عجوز وسأل بخوفٍ غامض : من أنتما؟

قلت : نحن من كنّا وراء الحاجز.

تراجع خطوة وقال : لا أحد يعود من هناك!

ابتسم زياد وقال :

 بل كل من لم يذهب هو العالق هناك يا عمّي.

سرت همهمة في الجمع ، بين الخوف والفضول ، 

بين التصديق والرفض.

امرأة صاحت: ماذا وجدتما؟ أهو الموت؟

قلت بهدوء: بل الحياة ، ولكن بلا خوف.

نظروا إلينا كما يُنظر إلى مجانينٍ تحدّوا المجهول.

قال رجل ضخم الصوت :

 الحياة بلا خوف فوضى ، فالخوف هو ما يحكم الناس!

أجابه زياد :

 بل الخوف هو ما يُخضعهم ، لا ما يُنظمهم.

 النظام الذي يولد من الرعب هشّ ،

 يسقط حين يبتسم طفل في وجهه.

دخلنا الساحة الكبرى ، وقف الناس من حولنا.

كنت أراهم وأتأمل وجوههم التي تشبه وجهي القديم ،

أعين قلقة ، شِفاهٌ لا تعرف إلا الهمس ، 

وقلوب تظن النجاة في الطاعة.

قلت بصوتٍ مسموع : الخوف لم يُخلق ليحكمنا ، بل ليحذرنا.

هو إشارة ، لا قيد.

هو نار صغيرة تنبّهنا من السقوط ، لكننا جعلناها محرقة للروح.

رفع أحد الشبان يده وقال :

 وكيف نعيش بلا خوف؟ من يحمي الضعفاء؟

قلت : الوعي.

حين يفهم الإنسان ذاته ، لا يعود بحاجة إلى خوفٍ يحرسه ، بل إلى ضوءٍ يرشد خطاه.

قال زياد : الضعيف لا يحتاج من يخيفه ، 

بل من يُذكّره بقوته المنسية.

وفي تلك اللحظة ، هبّت ريح قوية ، وانطفأت بعض المصابيح.

ارتبك الناس ، وصرخ أحدهم : الحاجز يعود!

ابتسمت وقلت :

لا، إنه لا يعود ، أنتم من تستدعونه حين تهربون من أنفسكم.

اقترب طفل صغير ، لم يتجاوز العاشرة ، 

نظر إليّ بعينين لامعتين وسأل : 

هل يمكنني أن أرى ما رأيتم؟

انحنيت نحوه وقلت:

حين تصدق نفسك ، ستراه ، وحين لا تخاف من السؤال ، ستعبره دون أن تدري.

ضحك زياد وقال :

 هذا هو الجيل الذي لن يبني حواجز جديدة.

تفرّق الناس بصمتٍ متأمل ، كأنهم سمعوا شيئًا لم يُقال بعد.

بقيتُ أنا وزياد وحدنا وسط الساحة.

قلت : هل تراهم فهموا؟

قال : ليس بعد ، لكنهم بدأوا يفكرون. 

وهذا أول صدعٍ في الجدار.

رفعت رأسي إلى السماء، فرأيت القمر يخرج من الغيوم كأنه يبتسم لنا.

قلت: الخوف يا زياد ، 

حين يتكلم الإنسان عنه ، يبدأ في الموت.

قال : وحين يصمت الناس عنه ، يعود ليحكمهم.

ثم سار كلٌ منا في اتجاهٍ مختلف قليلاً ، لا فراقًا بل اتساعًا.

صوت الريح صار يشبه نشيدًا جديدًا ،

نشيد من طمأنينةٍ خرجت من رحم العاصفة.

وفي آخر المشهد ،

جلس طفل على حافة النهر حيث بدأ كل شيء ،

رسم على التراب دائرة صغيرة وقال :

 هذا حاجزي ، سأعبره غدًا.

وانتهى الضوء إلى الداخل ، حيث لا خوف ، ولا حاجز ، بل إنسان بدأ يفهم.

 

“أنا وزياد وصوت الذين لم يولدوا بعد”

الليل كان صافيًا على غير عادته.

النجوم تتدلّى كأنها تهمس بشيء لا تقدر اللغة على قوله.

جلسنا أنا وزياد عند حافة الزمن ، لا مكان ولا ساعة ،

 فقط إحساس بأننا صرنا جزءًا من حكاية لا تنتهي.

قال زياد وهو يحدق في البعيد : هل تسمعهم؟

قلت : من؟

قال : الذين لم يولدوا بعد ، أصواتهم تأتي من الغد ،

خافتة كالمطر قبل أن يلامس الأرض.

أصغيت ، وفعلاً ، كان هناك همسٌ يشبه النبض ،

كأن المستقبل يتنفس في صدر الحاضر.

قال صوت صغير لا أعرف مصدره :

 هل تركتم لنا طريقًا بلا خوف؟

نظرت إلى زياد ، ثم إلى الظلمة التي لا تخيف ،

 وقلت : تركنا لكم سؤالًا مفتوحًا ، 

 فالحياة التي تخلو من الأسئلة تموت قبل أن تبدأ.

سكت الصوت لحظة ثم قال :

 لكننا نُولد خائفين من أول صرخة ، من أول فراق ،

 من أول امتحان للروح.

أجابه زياد:

 الخوف لا يولد معنا يا صغيري ، بل يُلقَّن لنا مع أول كلمة :

” احذر “

إنهم يربّوننا على الحذر قبل أن يعلّمونا الحرية.

سأل صوت آخر ، أكثر نضجًا:

 وهل الحرية بلا خوف ممكنة؟

قلت : ليست الحرية غياب الخوف ، 

بل أن تعرفه ولا تنحني له.

أن تمشي في طريقٍ تعلم أنه مؤلم ،

 لأنك تؤمن أن الألم هو معلم الحقيقة.

سادت لحظة صمت ،

ثم سمعنا أصواتًا كثيرة ، تتداخل كأنها جوقة أرواحٍ لم تُخلق بعد ، تقول :

 نحن قادمون ، لكننا نريد عالمًا لا يُخيف الحلم.

نريد أن نُولد في أرضٍ لا يُعاقَب فيها السؤال.

 نريد أن نعرف ، هل أنقذتم العالم أم أنفسكم؟

قال زياد بابتسامةٍ حزينة :

 أنقذنا القدرة على السؤال ، وهي أُمّ كل إنقاذ.

قلت : العالم لا يُنقذ مرة واحدة ، 

بل يُستعاد في كل جيلٍ يولد من رحم الوعي.

وأنتم ، يا من لم تولدوا بعد ،

أنتم الامتداد ، لا البدء ،

وأنتم الفجر الذي يكتمل حين نفنى نحن في صدقنا.

ظهر أمامنا ضوء ،

لكن لم يكن مثل أي ضوءٍ رأيناه من قبل.

كان يشبه أصوات الأطفال حين يضحكون للمرة الأولى ، يشبه وعدًا قديماً كتبه الله في قلوب البشر :

 أن النور لا يموت.

قال زياد : هل تظن أنهم سيسمعوننا؟

قلت : لا يحتاجون إلى سماعنا ،

يكفي أن يواصلوا ما بدأناه ، 

 أن يولدوا وهم لا يخافون من النظر إلى أنفسهم.

اقترب منا أحد الأصوات وقال في هدوءٍ سماوي :

هل الخوف يعود؟

قلت : نعم ، لكنه يعود ليذكّرنا أننا أحياء.

كل من لا يخاف فقد جزءًا من إنسانيته،

لكن من يترك الخوف يحكمه ، فقدها كلها.

ثم ساد سكون مطلق ، كأن الوجود كلّه استراح لحظة.

مدّ زياد يده إلى الأفق وقال :

 اسمع يا طارق ، إنهم لا يطلبون منا بطولات ، بل صدقًا.

قلت : والصدق أعظم من البطولة ، لأنه لا يُصفّق له أحد.

ومع أول خيط من الفجر ،

لم يبقَ أحد سوى صدى الكلمات ،

يتردد في الفضاء كأنّه عهدٌ مكتوب على الهواء :

“لكل جيلٍ حاجزه ، ولكل حاجزٍ ضوء ،

ومن يعبر ، يورّث العبور لمن بعده.”

ثم قام زياد ، نظر إليّ وقال :

 انتهت الرحلة يا طارق؟

قلت :

 لا يا صديقي ، نحن بدأناها نيابةً عن الذين سيكملون.

فالحكاية لا تُكتب لتُقرأ ، بل لتُورّث.

ومضينا في الصمت ،

لا إلى نهايةٍ ، بل إلى استمرارٍ جديد ،

حيث يولد الإنسان من نفسه ، كلّما تذكّر أنه لم يُخلق ليخاف ، بل ليعرف.

 

“زياد وحده بعد طارق”

زياد :

استيقظت على صمتٍ أثقل من الكلام.

كان الفجر يحاول أن يولد ، لكن شيئًا في الأفق بدا ناقصًا ، كأن الضوء نفسه فقد صديقه.

نظرت إلى جانبي ، فلم أجد طارق.

ترك مكانه خاليًا إلا من ظله ، 

ظلٍّ يشبه الذكرى أكثر مما يشبه الغياب.

مشيت في الطريق الذي عبرناه معًا.

الحقول كما هي ، والعصافير كما كانت ، 

لكنّ شيئًا في قلبي تغيّر

كنت أسمع صدى خطانا القديمة

 وكأنها تعزف لي لحن الفقد.

قلت في نفسي :

 ها أنا وحدي بعد طارق 

لكن من أنا الآن؟ 

أهو زياد الذي كان يرتجف عند الحاجز؟

أم ذاك الذي تحدّث مع أصواتٍ لم تولد بعد؟

في البعيد ، سمعت صوت طارق.

لم يكن نداءً ، بل سكونًا يتكلّم.

طارق لم يمت ، لقد تماهى فيّ.

صار جزءًا من صوتي حين أصدق ،

جزءًا من هدوئي حين أخاف ،

وجزءًا من ضميري حين أتردد.

قال طارق في داخلي :

لا تبحث عني في الخارج ، لقد أصبحت أنت.

قلت له بصوتٍ مرتجف :

 وكيف أعيش دونك؟

قال :

 عش كما كنت تحيا معي ، بالصدق ، لا بالاعتماد.

جلست على ضفة النهر التي بدأنا منها كل شيء.

كانت المياه أكثر صفاءً ، كأنها تحمل ذاكرة الرحلة.

رأيت انعكاسي ، فرأيت وجهين : وجهي ووجه طارق

امتزجا حتى لم أعد أعرف من منا يتحدث.

قلت :

 الخوف مضى يا طارق ، لكن الفقد ثقيل.

قال الصوت :

 الفقد هو الدرس الأخير ، هو أن تحب بلا امتلاك ، 

وأن تواصل الطريق حتى وإن رحل الرفيق.

غابت الشمس بعد قليل ،

لكن الغروب هذه المرة لم يكن حزنًا ، بل وعدًا بالاستمرار.

فكل غيابٍ صادق يترك خلفه أثرًا يضيء أكثر من الحضور.

قمت من مكاني وسرت نحو الأفق ،

كل خطوة كانت كأنها وصية،

وكل نفسٍ كان كأنه تذكير بأن الحياة لا تتوقف عند أحد ، حتى الذين أحببناهم حتى العظم.

قال طارق في داخلي :

هل تتذكر ما قلناه للذين لم يولدوا بعد؟

قلت : نعم ، أن لكل جيلٍ حاجزه ، ولكل حاجزٍ ضوء.

قال : الآن أضف أنت وصيّتك ، يا من بقيت بعدي.

فكتبت على الرمل قبل أن يأخذها النهر :

“لا تبحثوا عن الضوء في السماء “،

بل في قلوبٍ جرّبت الظلمة وعادت منها إنسانًا.

 

هدأ كل شيء.

الريح مرّت بي كأنها تودّعني بحنوّ.

رفعت رأسي إلى النجوم التي شهدت حكايتنا ،

وقلت همسًا :

 وداعًا يا طارق ، لا كفقد ، بل كاكتمال.

فمن يعرف نفسه ، لا يكون وحيدًا أبدًا.

ثم مضيت في الطريق،

بلا خوف ، بلا ظلّ ، بلا سؤالٍ لم يُسأل.

كنت أنا وحدي بعد طارق 

لكنّي كنت كاملًا للمرة الأولى.

شاهد أيضاً

🏆 مدارس المدينة سكولز تهنئ المنتخب الوطني المغربي لأقل من 20 سنة على إنجازه التاريخي بفوزه على المنتخب الفرنسي 🇲🇦

🏆 مدارس المدينة سكولز تهنئ المنتخب الوطني المغربي لأقل من 20 سنة على إنجازه التاريخي …

” أنا وليلى والعشق”

” أنا وليلى والعشق” طارق غريب   (الضوء خافت ، كأنه بقايا حلم. صوت الريح …