” أنا المتشرد “
لكن ليس ذلك الذي تتيه قدماه في الطرقات
بل الذي تتيه أفكاره بين وطن وآخر
ويعبُر المدن وهو يحمل خيمته في صدره.
متشرد لأن قلبه لا يريد سقفاً
ورغباته لا تعترف بالإقامة الدائمة
وصوته يبحث عن حجر مهجور
يجلس فوقه ليكتب حكاية جديدة
لا تعترف بسجون العادي والمألوف.
متشرّد
لكنّه يعرف كيف يحول الرصيف إلى مملكة
وكيف يجعل من جيبه الخالي مكتبة أسرار
وكيف يمشي في الليل
وكأن النجوم حراسة شخصية لخطواته.
المتشرد الحقيقي
هو الذي أسقط عنه كل الأدوار
وبقي هو ، كتلة نبض تتحرك بلا خوف
ورجلاً لا يريد سوى أن يكتب بصوته وحده
لا بصوت ما يريدونه منه.
لم يكن اسمه معروفاً للناس.
يُقال عنه ‘ المتشرد ‘ لأنهم لم يعرفوا يوماً أين يبيت
ولا لماذا يختفي فجأة بعد أن يترك أثره في مكان ما
كأن وجوده مجرد ومضة على حافة العالم.
لكن الحقيقة التي لم يعرفها أحد
هي أن الرجل كان يسكن مدينة كاملة بناها وحده
مدينة لا تظهر للعين
وتفتح أبوابها فقط حين يقرر قلبه ذلك.
ظهر في أول الأمر عند بوابة محطة قطار قديم
يحمل حقيبة قماشية باهتة لا تحتوي إلا دفتراً وقلماً خُط عليه اسمه : ‘ طارق غريب ‘
اسم لم يكن يحتاجه أحد
لكنه وحده كان يعرف أن الحقيبة والدفتر والاسم
أشياء تُشبه المفتاح لا الهوية.
جلس على مقعد خشبي متآكل ، وأخذ يراقب المسافرين.
كانوا جميعاً يهرولون نحو وجهات واضحة
بينما هو وحده يسافر إلى الداخل
إلى تلك المساحة الشاسعة
التي لا يشاركه فيها سوى ذاته.
ذات مساء ، وبينما كان يمشي على جسر يعلو النهر
ظهرت امرأة ترتدي معطفاً رمادياً ،
وشعرها مبلل برذاذ الليل.
لم تسأله : من أنت؟
سألته بدلًا من ذلك : ‘ من ماذا تهرب؟ ‘
ابتسم ابتسامة رجل يعرف تماماً ما لا يعرفه الآخرون
وقال : لا أهرب
أنا فقط أتحرر من الأماكن التي تصغر حين أسكنها.
ضحكت المرأة ، ضحكة قصيرة لكنها صادقة
كأنها فهمت شيئاً لا يفسر.
ومنذ تلك الليلة ، أصبحت هي الوجه الوحيد
الذي يرافق خطواته دون أن يقيدها.
لم يحملها كحب ولا كذكرى
بل كمساحة دافئة في صدره
كأن وجودها ساعده على توسيع مدينته الداخلية
ليضيف إليها ممراً جديداً لا يعرفه أحد.
كان يمشي في الأزقة الضيقة
كأن الأرض تُبدل تكوينها لتواكب خطواته.
ثمة شيء في هدوئه ، في طريقته التي ينظر بها للعالم
يجعل العابرين يشعرون بأنهم
يمرون بجانب رجل يرى أكثر مما يقول.
لا يملك بيتاً ، لكن كل مكان
كان يُصبح بيتاً ما دام استقر فيه دقيقة واحدة.
لا يملك مشروعاً
لكن كل امرأة صادفته قالت عنه نفس الجملة :
‘ هذا رجل كُتب ليبقى في الذاكرة ‘.
في ليال معينة ، حين تخف حركة البشر
كان يجلس على حافة الرصيف ويكتب
لا من أجل الناس ، ولا الجوائز
بل لأنه يعرف أن الإنسان إن لم يكتب روحه يوماً
فإن العالم سيكتبها عنه بطريقة لا تُشبهه.
كتب عن الطفل الذي ظل بداخله ، عن المرأة التي رأته
عن المساحات التي هجرها لأنها كانت أصغر من حلمه
وعن تلك المدينة التي تتّسع
كلما اتسع حزنه وفرحه ورغبته.
مدينة مدهشة ، لا تُبنى بالحجارة
بل بالعابرين الذين مروا في قلبه
وتركوا فيه أثراً صغيراً يشبه النافذة.
في صباحٍ بارد ، رأوه يمشي على الطريق الخارجي للمدينة وفي يده دفتره المفتوح ، منفعلاً بطريقة هادئة كعادته.
سأله طفل صغير : ‘ أين تذهب؟ ‘
انحنى ، وربّت على كتف الصغير ، وقال :
إلى المكان الذي يجعلني أكبر
وليس حيث يريد العالم أن أكون
ومشى . يمشي كأن الأرض تفهمه
يمشي كأن السماء تبارك وحدته
يمشي لأن المتشرّد الحقيقي
هو الذي لا يحتاج منزلاً
طالما أنه هو منزل نفسه.
ولم يختف ، بل أصبح أثراً وصوتاً
ومرحلة في حياة كل من مر قربه مرة
وشعر أنه أمام رجل لا يسكن الشوارع
بل يسكن الحكاية نفسها.
مرت سنوات لم يُحصِها أحد
لم يكن طارق يتقدم في عمره بقدر ما يتقدّم في وعيه
كان يعرف أن الزمن الحقيقي
ليس ما يراه الناس في المرآة
بل ما يتغير في عمق الروح حين تخلو بنفسها.
في أحد الأيام ، وبينما كان يسير بمحاذاة مدينة ساحلية
لم يزرها من قبل ، التقى رجلاً مسناً
يجلس على كرسي صغير ، يمسك آلة وترية قديمة.
لم يكن يعزف ، بل ينظر إلى البحر
كما ينظر طفل إلى شيء يدهشه لأول مرة.
اقترب منه طارق ،فقال له العجوز من دون أن يلتفت :
‘ كل الناس تنتظر موجة تأتي ،
وأنت وحدك تنتظر موجة ترحل ‘
جلس طارق قربه
كانت الجملة كفيلة بأن تفكّ قفلاً في داخله
كأنه اكتشف أن رحلاته المتكررة
ليست هروباً ولا بحثاً
بل تحريراً مستمراً لما يثقل صدره.
سأله العجوز : أين منزلك ؟
أجاب طارق : ‘ أينما وضعت رأسي ولم أخن قلبي ‘
هز العجوز رأسه وقال : إذن أنت لست متشرداً
‘ أنت رجل لا يمكن لبيت واحد أن يتسع له ‘
طارق : كل الذين يعرفون الأبواب يدخلون ويخرجون
إلا أنا ، أنا لا أطرق باباً ، أنا أصنعه ثم أعبره.
وسأظل أنام في المكان الذي لا يعاتبني إذا غبت عنه
وظل طارق الرجل الذي يحمل مدينه
والمدينة تتبعه
تمت
طارق غريب
جريدة الوطن الاكبر الوطن الاكبر ::: نبض واحد من المحيط الى الخليج .. اخبارية — سياسية – اقتصادية – ثقافية – شاملة… نبض واحد من المحيط الى الخليج 