أريد كلمات
قصة
آب 2021
كانت أجمل لحظات الصباح عند أم عصام عندما تذهب مع ابنها وحيدها لتوصله إلى الروضة القريبة، تغرقه بالقبلات قبل أن يجتاز الباب الحديدي، وتعود لدارها…
تساعد زوجها أبو عصام الذي يقوم بحلب البقرة، مصدر رزق هذه العائلة الصغيرة. تحمل أم عصام الحليب على رأسها، وتأخذه إلى تجار الألبان في السوق، الحقيقة لم تكن أم عصام راضية عن هذه المتاجرة الهزيلة، لأن التجار يرفضوا أن يرفعوا لها ثمن الحليب، بينما هم يبيعونه بأضعاف ثمن الشراء…
قبل الظهيرة يذهب أبو عصام إلى الحقل الذي ورثه من أهله، يحضر بعض منتجات الأرض للعائلة، وحشائش للبقرة.
أم عصام تركض في أعمال البيت المختلفة ، وتراقب موقع الشمس حتى تقدر الوقت، عليها أن تهيأ الغذاء قبل عودة زوجها، ثم تذهب لتحضر ابنها من الروضة…
يخرج عصام وتضمه أمه ولا ترتوي من تقبيله وتشد على يده ويعودان إلى المنزل…
كبر عصام ودخل المدرسة الابتدائية وصار يذهب بمفرده إلى مدرسته…
في الظهيرة تجتمع العائلة حول مائدة الطعام، الأم تمتم بالصلوات شاكرة الله على نعمه، وتطلب منه أن يحرس لها ابنها، ويكون معه في المدرسة، ويفتح له ذهنه ليتعلم جيداً…
جاء اليوم الأسود، عندما هجمت إسرائيل على سوريا عام 2073 تبغي احتلال أراضي جديدة في سورية… كان ذاك اليوم أبو عصام في الحقل أصابته شظية فأردته قتيلاً…
غاب عامود الدار، ولبس البيت الثوب الأسود، وصارت أم عصام هي الأم وهي الأب…
أنهى عصام الدراسة الثانوية وانتسب للجامعة السورية في دمشق بكلية الهندسة المدنية
باعت أم عصام الأرض، وباتت تصرف منها على ابنها وعلى علف بقرتها…
تعذبت هذه المرأة، وجاعت، وتمرمرت، وناضلت، حتى تخرج عصام مهندساً مدنياً، فأنساها كل تعبها وملأها فرحاً، وحقق لها حلمها الكبير، توظف المهندس في إحدى وزارات الدولة، وطار صاب أمه من فرحة، ليس بعدها فرحة…
لكن الفرحة الكبيرة لم تكتمل بعد، أم عصام تريد أن تفرح بابنها حتى تفرح به وبأولاده أحفادها…
وصار عليها أن تختار له أجمل صبايا القرية، ولماذا صبايا القرية؟ هذا عصام المهندس يطرق أعلى الأبواب وسيرحبون به عريساً لبناتهم…
استأجر عصام غرفة في دار عربية قديمة في الأحياء القديمة، منزل واسع ذو غرف عديدة مؤجرة جميعها إلى ناس متعددي المشارب، وأحضر والدته إلى دمشق لتقطن معه، باعت أمه صديقتها البقرة، والدموع انسكبت من عينيها وهم يسحبونها ليخرجوها من إسطبلها…
جاءت أم عصام إلى المدينة، التي كرهتها منذ وصلت إليها، غرفتها واسعة، لكنها لا ترى النور تقريبا…
لكن فرحتها بخدمة ابنها كان سر سعادتها…
وجاء ذلك اليوم الذي لم تكن تتوقعه يوماً، عندما أخبرها عصام بأنه وقع عقد عمل مع دبي، وفرصة كهذه قد لا تعوض ثانية…
تجمدت الأم، وكادت تنفجر من هول الخبرية. لكنها كتمت أنفاسها وتماسكت…كيف لها أن تكون حجر عثرة في طريق ابنها حبيبها…
قال عصام سأرسل لك نقودا كثيرة ستشترين عجل جديدة، البقرة التي كانت عندنا أهرمها الزمان. وسوف أهدم بيتنا، ونقيم مكانه منزلا جديدا حضاريا
وستشترين تلفازا حديثا، وغسالة، وكل ما يلزم من وسائل الحضارة الحديثة.
أمر السفر كارثي بالنسبة إلى أمه. أصابها صمت لجم لسانها…وتيبس كل جسدها…
احلامها تهدمت، وانهارت كافة خططها المستقبلية.
سافر عصام، ورجعت أمه إلى الضيعة، لكن التعاسة كانت تملأ قلبها…
التزمت المنزل، ولم تعد ترغب بمحادثة أحد، سوى موزع البريد الذي كان يحضر لها الرسائل من ابنها
كانت تنتظره وهي جالسة أمام باب بيتها، يحضر لها الرسائل، ويقرأها لها وغالبا كانت تحتوي على حوالات مالية…
أم عصام رفضت بالكامل أن تصرف أي من الحوالات رغم إصرار ابنها أن تشتري كل ما ترغب فيه. لكنها كانت تقول هذا تعب ابني، تنكسر يدي إذا سأصرف منها قرشاً واحداً….
كانت تعيش من بقايا ثمن الأرض وثمن البقرة. وتسيل دموعها لفقدان زوجها أولا، والآن سفر عصام…
أخبرها عصام بأنه تزوج صبية زميلته في العمل،
ووعدها بانهما سيزوران سورية عندما تحين لهما الفرصة…
تناقصت الرسائل كثيرا وشحت الكلمات فيها، حتى أضحت الرسائل تقتصر على حوالات مالية باهتة…
هذا أزعج أم عصام فطلبت من ساعي البريد أن يكتب رسالة إلى ابنها وقالت له: يا ابني: أنا لا أرد مالاً، أريد كلمات…
ماتت الأم وهي في قمة تعاستها. وجاء عصام ليساعد في دفن أمه ويتقبل التعازي. وعندما وجد جميع حوالاته في الدار…
عاد إلى دبي وحزن عميق يسكن قلبه…دموعه كانت مدرارة، وما فتئ يردد كلام امه: يا ابني، أنا لا أريد مالا، أنا أريد كلمات…
كتب القصة: عبده داود
الوسومأريد كلمات. عبده داود
شاهد أيضاً
===== خلي صورتك ذكرى =====
===== خلي صورتك ذكرى ===== لو تاني اتقابلنا في سكة واحدة اختفي عني وما تبصليش …