أخبار عاجلة

أبجدية الفكر الإنساني… رحلة وجدانية في الوعي والحوار

أبجدية الفكر الإنساني… رحلة وجدانية في الوعي والحوار

روعة محسن الدندن

 

الفكر ليس مجرد كلمات تُقال، ولا شعارات تُرفع، بل هو نور خفي يشق طريقه بين ضباب الحياة، يفتح أبواب العالم والروح معًا، ويكشف ما وراء المظاهر، ويقرأ ما بين السطور، ويستمع لما لا يُقال. منذ القدم حاول المفكرون تنظيم هذا النور، حتى ابتكر غوتفريد لايبنتس “أبجدية الفكر الإنساني”، أداة لتفكيك الأفكار إلى عناصرها الأساسية، لاستخلاص الحكمة من أصغر تفاصيلها، ولتحويل فوضى الذهن إلى معرفة صافية، وعيًا قادرًا على توجيه الإنسان والمجتمع.

 

أبجدية لايبنتس ليست مجرد نظرية جامدة، بل رحلة للروح والعقل معًا، طريقة لفهم العالم بتفكيك الأفكار، وإعادة تركيبها بعناية لتولد معرفة واضحة، تحوّل الفكرة إلى حياة، والكلمة إلى فعل، والفكر إلى وعي. كل فكرة تصبح حرفًا، وكل تركيب فكري كلمة، وكل سلسلة من الكلمات تولد جملة، والجملة تولد رؤية متكاملة للحياة والوجود.

 

الفطرة الإنسانية هي الخيط الذهبي الذي يربط هذه الحروف. إنها بديهيات مشتركة بين البشر، قبل أن تشوهها الأحقاد والانفعالات والمصالح الضيقة. الفطرة بداية، والوعي مسار، والفكر المنظم طريق يصلنا إلى تفاهم عميق مع الذات والآخرين، إلى لغة مشتركة تتجاوز الحواجز.

 

في حواراتي، أبدأ دائمًا مع الذات أولًا، أسأل بصراحة القلب والعقل: ما الذي أشعر به؟ ما الذي أفهمه؟ ما الذي أرغب في قوله؟ هذه اللحظة تشبه تفكيك الحروف في أبجدية الفكر؛ تحليل الذات قبل الآخر، وفهم النوايا والمشاعر والعواطف قبل مواجهة العالم الخارجي.

 

حين يختلف الناس في الرأي، لا يكون الحل في الغلبة أو الصراخ أو كسر الآخر، بل في بناء أبجدية للحوار، كما حلم غوتفريد. كل سؤال يصبح حرفًا، كل إجابة كلمة، وكل انفتاح على الآخر جملة حيّة تصوغ نصًا مشتركًا. ومن هنا يصبح الحوار أبجديةً لا تهدف لإلغاء الاختلاف، بل لتحويله إلى رؤية شاملة ومشتركة.

 

وفي تراثنا العربي، نجد صدى هذه الفكرة: الفارابي رأى أن “المدينة الفاضلة” لا تُبنى إلا بتبادل الآراء بين العقلاء للوصول إلى الخير الأعلى، والجاحظ أكد أن الحجاج والجدل طريق لتوضيح المعنى وإغناء الفكرة، وليس وسيلة للهدم، وابن رشد رأى أن الحوار مع المختلف سبيل للاقتراب من الحقيقة، فالعقل واحد وإن اختلفت طرق الوصول إليه.

 

رؤيتي الخاصة أن هذه الأبجدية ليست لغة عقلية باردة، بل لغة وجدانية، تتشكل من الحروف التي يكتبها القلب قبل القلم. التساؤلات الصادقة هي الحروف، والإجابات المخلصة هي الكلمات، والتفاهم المشترك يولد الجمل، والنص النهائي هو وعي حيّ يشترك في صياغته كل فرد ومجتمع. تبدأ هذه الأبجدية من البيت الصغير وتمتد إلى المجتمع الأكبر، ومن الذات الفردية لتشمل الوعي الجمعي، فتصبح ممارسة يومية للحياة، وليست مجرد نظرية جامدة.

 

الحوار إذن يصبح ممارسة حضارية وروحية، حيث يُصبح الخلاف نافذة لا جدارًا، ويغدو التنوع في الآراء إثراءً للنص الإنساني ومساحة يلتقي فيها العقل بالقلب، الواقع بالحلم، ليُخطّ معًا كتاب إنسانيتنا المشتركة، أبجديةً تتجاوز الحدود واللغات والأزمان.

 

وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي، أي نقاش يُدار وفق هذه الأبجدية يصبح أكثر وعيًا وعدلاً؛ الفكر المنضبط والحوار الداخلي والخارجي يمنع الانحراف والتلاعب، ويحوّل النزاع إلى معرفة، والتباين إلى فرصة للنضج الجماعي.

 

وقد وجدنا مفكرين عربًا تناولوا هذا المعنى بطريقة مشابهة:

 

محمد أركون، في إعادة قراءة العقل العربي، تحدث عن تفكيك المفاهيم للوصول إلى وعي نقدي.

 

طه عبد الرحمن، تناول أهمية ترتيب الأفكار وفهمها في سياقها لتحقيق عقلانية الحوار.

 

محمد عابد الجابري، ناقش التركيب النقدي للفكر العربي وكيفية تطويره عبر التحليل البنيوي للأفكار.

 

كل هذا يؤكد أن الفكر المنظم، المحاور للذات والآخر، القائم على الفطرة والصدق، هو مفتاح لفهم العالم، وبناء حياة واعية، وسبيل للتقدم الإنساني.

 

حين نصقل فكرنا ونحاور أنفسنا بصدق، نصنع من حياتنا قصائد وجدانية، ونحوّل كل اختلاف إلى فرصة، وكل تحدّ إلى درس، وكل صراع إلى معرفة. الفكر يصبح فعلًا وجدانيًا حيًّا، تجربة يلمسها القلب قبل العقل، وعملية مستمرة لإعادة ترتيب الحروف وتحويل الكلمات إلى جمل، والجمل إلى رؤية حياة، والفكرة إلى سلوك وإنجاز.

 

في كل حوار، صغيرًا أو كبيرًا، نرى التطبيق أمامنا: الحروف تُحلل، الكلمات تُرتب، والجمل تُصاغ لتصبح مسارًا للوعي ومساحة للسلام الداخلي والخارجي. كل لحظة استماع، كل سؤال صادق، كل فكرة تُفهم وتُعاد صياغتها، هي خطوة في رحلة أبجدية الفكر الإنساني، من الذات إلى الآخر، ومن الفكرة إلى الواقع.

 

الفكر الإنساني ليس رفاهية، بل ضرورة، ومسار مستمر يبدأ من الذات ويمتد نحو الآخرين، ليصل في النهاية إلى وعي شامل يرفع المجتمعات ويعيد الإنسان إلى أسمى درجات الإنسانية.

 

وفي ختام هذا النص، أؤكد أن هذه المقالة ليست مجرد تلخيص لفكرة لايبنتس، بل رؤيتي الخاصة لتطبيق أبجدية الفكر الإنساني في حياتنا اليومية، في حواراتنا الداخلية والخارجية، وفي الطريقة التي نفهم بها أنفسنا والآخرين، وبهذا يتحول الفكر إلى فعل وجداني حيّ يثري الحياة ويعمق الإنسانية.

 

 

المراجع:

غوتفريد لايبنتس، أبجدية الفكر الإنساني، الطبعة الأصلية، ألمانيا، القرن السابع عشر

شاهد أيضاً

امراض الشيخوخة هى شباب متأخر قليلا 

امراض الشيخوخة هى شباب متأخر قليلا  كتبت د. ايمي حسين  الكثير من الأمراض ليست في …

محافظ الجيزة: إنشاء إدارة للأسواق لضبط المنظومة وتعزيز الرقابة والقضاء على العشوائية

محافظ الجيزة: إنشاء إدارة للأسواق لضبط المنظومة وتعزيز الرقابة والقضاء على العشوائية كتب/سيد عبدالسميع  أصدر …